السبت، 18 مارس 2017

هل خالفَ الشافعيّة نصَّ الشافعيِّ في اللحية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ؛
فقد استشكل بعض أهل الزمان اعتماد محققي الشافعية أن حلق اللحية مكروه كراهة تنزيهية، وليس محرمًا، وتعقبهم بنصِّ الشافعي رضي الله عنه، ورمى من فسره على الكراهة بالتعسف والبعد، وهذا كلام من لا يعرف لغة الشافعي رضي الله عنه .
(1) فهل حقًّا نصَّ الشافعي رضي الله عنه على التحريم ؟
(2) وإذا لم يكن النصُّ على التحريم فهل ثمَّ نصٌّ آخر صارف إلى الكراهة ؟
(3) ثم ألا يحتمل أن يكون الرافعيُّ والنوويُّ قد فاتهما نصُّ الشافعي في المسألة ؟
(4) أليس ابن الرفعة رحمه الله قد تعقب الرافعي والنوويَّ رحمهما الله، فبمَ توجهون ذلك ؟
(5) ثمَّ ما دليل الكراهة التنزيهية رغم ورود الأمر الصريح المحمول على الوجوب ؟ وكيف يوجه إجماع ابن حزم على الحرمة ؟
===
وهاك تحقيق المقام :
أمّا كون الشافعي نصَّ على حرمة حلق اللحية ففيه نظرٌ، بل غاية ما في نصِّ الشافعي رضي الله عنه التعبير بعدم الجواز، وعدم الجواز يقع في كلام إمامنا الشافعي رضي الله عنه على ثلاثة أحوال، إما أن يريد به الصحة (أي : لا يصحُّ)، أو أن يريد به التحريم، أو أن يريد به نفي الإباحة مستوية الطرفين (أي : لا يباح فيكره)، وهاكَ تحقيق المقام.
الحال الأولى : أن يريد الشافعي بنفي الجواز نفيَ الصحة .
مثال ذلك قوله رضي الله عنه في «الأم» (ج1/ص164) : «ولا يجُوزُ أنْ تكونَ امرأةٌ إمامَ رجلٍ في صلاةٍ بحالٍ أبدًا» .
فقوله : «لا يجوز» في هذا الموضع أي : لا يصحُّ، وعدم الصحة يلزم من الحرمة ؛ إذ يحرم التعبد بما أبطله الشارع .
الحال الثانية : أن يريد الشافعي بنفي الجواز التحريم .
مثالُ ذلك : قوله رضي الله عنه في «الأم» (ج5/ص39) : «فإذا أومرت في رجل فأذنت فيه لم يجز أن تخطب»، أي : فيحرم أن تخطب .
الحال الثالثة : أن يريد الشافعيُّ بنفي الجواز الكراهة التنزيهية .
مثالُ ذلك : قوله رضي الله عنه في «الأم» (ج1/ص246) : «ولا يجوز ترك صلاة الكسوف عندي لمسافر ولا مقيم» .
ومراده رضي الله عنها : الكراهة التنزيهية، فقوله : «لا يجوز» أي : لا يباح إباحة مستوية الطرفين، أي : فيكره .
فإذا علمتَ ذلك، فالسؤال الذي يأتي هنا : كيف يعرف مراد الشافعي بنفي الجواز، فيحمل في موضع على التحريم، وفي آخر على الكراهة، وفي ثالث على نفي الصحة ؟
لا بد هنا من نظر في أمرين، أمر الحامل، وأمر النص المحمول .
أما الحامل فهو العالم الذي يحمل نصَّ الشافعي رضي الله عنه، فهذا لا بد أن يكون له من الاطلاع على نصوص الشافعي رضي الله عنه وقواعده ومداركه، لا أن يكون أجنبيًا عن المذهب، لم يرَ «الأم» إلا حينما أرادَ نصَّ اللحية .
وأما النصُّ المحمول فالذي يحدد مراد الشافعي فيه القرينة المفسرة، والنص حينئذ ينقسم إلى نوعين :
النوع الأول نصٌّ مقترنٌ بقرينة مفسرة، وهذا على نوعين :
(1) نصٌّ مقترن بقرينة مُفَسِّرة متصلة .
مثال ذلك قول الشافعي رضي الله عنه في «الأم» (ج5/ص39) : «فإذا أومرت في رجل فأذنت فيه لم يجز أن تخطب» .
فقد اقترنت بهذا النصِّ قرينة مفسرة متصلة، يحمل بها عدم الجواز على التحريم، وهي قول الشافعي رضي الله عنه بعده مباشرة : «وإذا خطَبَ الرجلُ في الحال التي نهى أن يخطب فيها عالمًا فهي معصيةٌ يستغفر الله منها» .
(2) نصٌّ مقترن بقرينة مُفَسِّرة منفصلة .
(3) مثالُ ذلك قول الشافعي رضي الله عنه في «الأم» (ج1/ص246) : «ولا يجوزُ تركُ صلاةِ الكسوف عندي لمسافر ولا مقيم» .
فقد جاءت القرينة المفسرة لهذا النصِّ الحاملة له على الكراهة لا على التحريم، وهي قول الشافعي رضي الله عنه في «البويطي» (ص194) : «صلاة الكسوف سنة»، وقال في موضع آخر (ص197) في صلاتي الكسوف والخسوف : «لأنهما ليسا بنافلتين، ولكنهما واجبتان وجوب سنة» .
قال النوويُّ رحمه الله في «المجموع» (ج5/ص60) : «فأراد الشافعي أنه يكره تركها فإن المكروه قد يوصف بأنه غير جائز من حيث إن الجائز يطلق على مستوى الطرفين والمكروه ليس كذلك» .
النوع الثاني : نصٌّ مطلق عن القرينة .
مثال ذلك قول الشافعي رضي الله عنه في «الأم» (ج2/ص115) : «وإذا كُسِرَ للمرأة عظمٌ : فلا يجوزُ أن ترقعه إلا بعظم ما يؤكل لحمُه ذكيًّا» .
فقول الشافعيِّ : «لا يجوز» أي : يحرم ؛ لقاعدة الشافعي في الباب المنثورة في نصوصه في حرمة الانتفاع بجزء آدمي .
===
وأما التساؤل بأنه إذا لم يكن النصُّ على التحريم فهل ثمَّ نصٌّ آخر صارف إلى الكراهة، وهذا نصٌّ ظاهر في التحريم ؟
فنقول : النصُّ ليس ظاهرًا في التحريم لاعتبارات عديدة في فقه عبارة الشافعي رضي الله عنه، ومع ذلك ؛ فثمَّ نصٌّ آخر مع هذا النص يصرفه إلى الكراهة التنزيهية،
وهو قوله في «الأم» (6/56) : «وينبغي له أن يأمر العدلين إذا أقاد تحت شعرٍ في وجهٍ أو رأسٍ أن يأمر بحلاق الرأس أو موضع القَوَدِ منه ... فإن أقادَ وعلى المستقاد منه شعرٌ فقد أساءَ ولا شيء عليه، وإنما أعني بذلك شعر الرأس واللحية» .
فهذا النصُّ يدل على الكراهة من وجوه، أظهرها أن الشافعي رضي الله عنه خيّر الإمام بين بين موضع القود وكامل اللحية أو الرأس، كما يدل على ذلك قول : «بحلاق الرأس أو موضع القود منه» مع قوله : «وإنما أعني بذلك الرأس واللحية» .
وثمَّ وجوه أخرى للاستدلال به على الكراهة تستدعي التطويل .
===
وأما التساؤل بأنه : ألا يحتمل أن يكون الرافعيُّ والنوويُّ قد فاتهما نصُّ الشافعي في المسألة ؟
فنقول : لا يظهر ذلك لعدة أسباب :
السبب الأول : أن هذا النصَّ الذي احتُجَّ به على تخطئة الرافعي والنووي رحمهما الله : موجودٌ وجودًا حكميًّا في «الشرح الكبير» و«الروضة» .
فنصُّ الشافعي يقول : «ولو حلقه حلاق فنبت شعره كما كان أو أجود لم يكن عليه شيء، والحلاق ليس بجناية ؛ لأن فيه نسكًا في الرأس، وليس فيه كثير ألم، وهو وإن كان في اللحية لا يجوز فليس فيه كثير ألمٍ ولا ذهاب شعر لأنه يستخلف، ولو استخلف الشعر ناقصًا أو لم يستخلف كانت فيه حكومة، ولو أن رجلًا حلق غير شعر الوجه والرأس فلم ينبت أي موضع كان الشعر أو من امرأة كانت فيه حكومة بقدر قلة شينه».
وقد نصَّ الرافعي والنوويُّ على ذلك في «الشرح الكبير» و«الروضة»، وعبارة الشرح الكبير» (ج10/ص359) : «إزالة الشعور بحلق ونحوه؛ من غير إفساد المَنْبِتِ، لا يجب به حكومة أصلاً؛ لأن الشعور تعودُ مرة بعد أخرَى»، وعبارة «الروضة» (ج9/ص310) : «إزالة الشعور من الرأس وغيره بحلق أو غيره من غير إفساد لا يجب بها حكومة أصلًا بلا خلاف ؛ لأن الشعر يعود» .
السبب الثاني : أن النووي لم يكن يختصر «الشرح الكبير» خلف الرافعي اختصار المتابع، بل كان يختصر اختصار المقابل المتتبع، يقابل نصوص الرافعي على تصانيف الشافعي وتصاينف الأصحاب، فيوافقه ويخالفه، ويتعقبه بنصوص الشافعي ونصوص الأصحاب كثيرًا جدًّا، فلو كان النصُّ قد فات الرافعي وهو احتمال واردٌ لما يعلمه طلبة المذهب فاحتمال فوته للنووي بعيد أشد البعد، لا سيما مع ما قدمناه .
ومن يعرف النووي وتصانيفه يعرف استحضاره العجيب لها في متفرقات الأبواب على نحو لا يبارى فيه، مع دقة الفهم التي يفوق فيها كلَّ من جاء بعده .
السبب الثالث : أن النووي والرافعي لم يتفردا بهذا الاعتماد، بل تابعهما جميع محققي المتأخرين، وإن كانوا في الاطلاع على نصوص الشافعي ليسوا كالشيخين فقد اطلعوا اطلاعًا كبيرًا على النقود التي كتبت على الشيخين .
===
وأما التسائل بأنه : أليس ابن الرفعة رحمه الله قد تعقب الرافعي والنوويَّ رحمهما الله، فبمَ توجهون ذلك ؟
فنقول : لا بد أن يُعلم هنا أمورٌ :
الأول : أن ابن الرفعة حينما تعقبَ النوويَّ لم يتعقبه في «كفاية النبيه» ولا في «المطلب العالي شرح وسيط الغزالي»، وإنما ذكر ذلك عن «حاشية الكفاية»، أما في «كفاية النبيه» نفسها» فقد نصَّ على أن كراهة نتفها، ولا فرق بين النتف والحلق عند الأصحاب، وعبارته (ج1/ص253) : «ويكره تبييضها بالكبريت أوغيره استعجالًا للشيخوخة, ونتفُها أول طلوعها إيثارًا للمرودة وحسن الصورة ... ونتف جانبي العنفقة وتركها شعثة إظهارًا لقلة المبالاة بنفسه» .
الثاني : أن ابن الرفعة حكى عن النص الحرمة، وهذا فيه نظر، بل النصُّ على عدم الجواز، فكفة النوويِّ مترجحة .
الثالث : أن النوويَّ أقعد في فهم المذهب من ابن الرفعة، وهذا يعرفه كلُّ متمذهب بمذهب الشافعي، فابن الرفعة قوته إنما هي جمع نصوص الأصحاب، فهو لا يبارى في هذا الباب، لا سيما في «المطلب العالي»، أما في دقة الفهم فالنوويُّ أقعد وأعلم بمدارك الشافعي رضي الله عنه، ولا شكَّ .
ومع ذلك فإن ابن الرفعة لم يتفرد بالتحريم بين الشافعية، بل سبقه أناسٌ إليه، وتبعه أناسٌ عليه، فقد ذهب إليه القفالُ الشاشي في «محاسن الشريعة» (ص239)، والحليمي في «الشعب» (ج3/ص79)، وكذا الإسنوي في «المهمات» (ج9/ص56)، ولم يتعقبه تلميذه ابن العماد في «التعقبات» (ج3/ق189/نسخة المكتبة الظاهرية)، وكذا وافقه الأذرعي في «التوسط والفتح» (ج3/ق229/نسخة المكتبة الظاهرية)، وهو ظاهر صنيع الزركشي في «خادم الرافعي» (ج15/ق145/نسخة المكتبة الظاهرية) .
ومع ذلك فمعتمد المذهب باتفاق محققيه : الكراهة التنزيهية، وعلى ذلك نصُّ الشافعي رضي الله عنه .
===
وأما التساؤل بأنه : ما دليل الكراهة التنزيهية رغم ورود الأمر الصريح المحمول على الوجوب، أليس قول النبي صلى الله عليه وسلم : «وفروا اللحى» برواياته الخمسة نصٌّ قاطع في تحريم حلق اللحية ؛ إذ الأمر محمول على الوجوب ؛ إلا لقرينة صارفة، مع كون ابن حزم الظاهر قد ساق الإجماع على التحريم ؟
قلتُ : في هذا نظرٌ من وجوه :
الوجه الأول : أن قولهم : «وفروا اللحى» نصٌّ قاطع في التحريم خطأ، بل النصُّ يرد على من حيثية واحدة خمسة وثلاثون احتمالًا عند الأصوليين، وما كان شأنه كذلك يقال فيه : «ظاهر في الوجوب» .
الوجه الثاني : أن الحديث وإن ورد بصيغة الأمر فإن الأمر في باب الآداب (أي : مطلوبات الشارع في أمور العادات) إنما يكون للندب لا للوجوب، وهذا الذي تدلُّ عليه نصوص أصحابنا خلافًا للظاهرية، وعلى ذلك أمثلة لا تحصر، جعل الفقهاء القرينة الحالية فيها صارفة عن الوجوب إلى الاستحباب .
فقد جاءت صيغة الأمر الصريحة في : التسمية قبل الأكل، والأكل باليمين، والأكل مما يلي، والاجتماع على الطعام، وأخذ اللقمة إذا وقعت وإماطة الأذى عنها، ولبس البياض، وتكفين الموتى فيه، والاضطجاع على الشق الأيمن في النوم، وابتداء السلام، والضيافة، وكلُّ هذه الأوامر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب ؛ لأنها من قبيل الآداب، ولا يحمل أمر الآداب على الوجوب إلا بدليل مؤكد .
وجاء النهي في النهي عن القران بين تمرتين، وعن الأكل متكئًا، وعن مسح الأصابع حتى يلعقها، وعن التنفس في الإناء، وعن الشرب من فم القربة، وعن الشرب قائمًا، وكلُّ ذلك محمول على الكراهة التنزيهية، ولا يحمل على التحريم إلا لدليل مؤكد .
فكون الأمر والنهي في الآداب قرينة حالية تجعل النصَّ محمولًا على الاستحباب لا على الوجوب .
ولذلك يقول أصحابنا في بداية باب آداب الخلاء : «اعلم أن جميع ما هو مذكور في هذا الفصل من الآداب محمول على الاستحباب إلا الاستقبال والاستدبار والاستنجاء».
وتأمل ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث قال : «قصوا الشارب»، وهذا أمرٌ، ولا قرينة تصرفه من الوجوب إلى الندب إلا أنه من قبيل الآداب .
وأما إجماع ابن حزم رحمه الله فإنه لا يستقيم الاستدلال به ؛ إذ إن ابن حزم قال : «وأجمعوا على أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز» .
فهذا إجماع على عدم الجواز لا على الحرمة .
وابن حزم أجلُّ من أن يسوق إجماعًا على الحرمة في مسألة كهذه، والنوويُّ والرافعي أجلُّ من أن يخالفا إجماعًا كهذا .
ونحوه قول شيخ الإسلام ابن تيمية : «لم يبحه أحدٌ»، هذا لا يخالف فيه أحد، فلو يقل بإباحة حلق اللحية أحدٌ، بل أهل العلم مختلفون على قولين، قائل بالحرمة، وقائل بالكراهة .
فإن قلتَ : ألا يكون قوله : «مثلة» قرينة على حمله على التحريم ؟
فنقول : نعم، لا تكون، فالمثلة منها ما هو محرمٌ، ومنها ما مكروه .
هذه رؤوس أقلامٍ في المسألة، ونسأل الله التوفيق والإخلاص .
وأخيرًا ؛ فاعلم أيها القارئ الكريم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك بإعفاء اللحية، فانظر ما أنت فاعلٌ في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم !!
اللهم إني أعوذُ بكَ من طغيان العلم وغلبة الجهل، وأن أعوذ

بكَ أن أنصر باطلًا أو أسوغ له، وأعوذ بكَ من الهوى كلِّه ...

حكم ارتداء المرأة للبنطلون داخل الصلاة ، وأمام الأجانب .

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعدُ ؛
فهذا تفصيل في حكم صلاة المرأة بالبنطال ، وكذا حكم بروزها به أمام الأجانب .
وفيه تمهيدٌ وأربع مسائل وخلاصة :
أما التمهيد ؛ فإن الفقهاء يفرقون بين صلاة المرأة بما يحجم أعضاءها وبين بروزها أمام الأجانب بما يحجم أعضاءها ، ذلك أن المعنى في الاستتار في الصلاة إنما هو الأدب مع الله سبحانه لا الفتنة ، أما المعنى في الاستتار بحضرة الأجانب فإنه الفتنة .
أما المسائل فهي أربع تتلوها خلاصةٌ :
المسألة الأولى : حكم صلاة المرأة بالبنطلون.
المسألة الثانية : حكم بروز المرأة بالبنطلون أمام الأجانب .
المسألة الرابعة : ضابط تحجيم العورة المُحرَّم .
المسألة الرابعة : تحقيق المناط في أمر البنطلون .
وهاك تحقيق المقام .
===
المسألة الأولى : صلاة المرأة بالبنطال في غير حضرة الأجانب .
أما عن صلاة المرأة في البنطلون فقد نصَّ السَّادة الشافعية وغيرهم على أنه لا يضرُّ في ستر العورة في الصلاة كونُ السَّاتر مُحَجِّمًا ، بل الذي يضرُّ كونه واصفًا للون.
ونصَّ أصحابُنا الشافعية على أنَّ الصلاة في السروال الضيق للمرأة مكروهٌ ، وخلاف الأولى للرجل ؛ خلافًا لبعض إخواننا الذين ظنوا تفرد الشافعية بهذا الأمر .
قال العلامة الهيتميُّ رحمه الله في «الإيعاب شرح العباب» (ج2/ق115/نسخة المكتبة الأزهرية) : «(بخلاف ما يحكي حجم الأعضاء لا لونها كسروايل ضيقة تحكي حجم الألية والركبة ونحوهما ، فإنه يكفي ، قال الماوردي وغيره : لكنه مكروه (للمرأة ، وخلاف الأولى للرجل)» .
ونحوه قوله في «الإمداد» (ج1/ص108/نسخة المكتبة الظاهرية) ، و«فتح الجواد» (ج1/ص218) .
وقال الرمليُّ في «النهاية» (ج2/ص8) : «(وشرطُه) أي الساتر (ما) أي جرمٌ (منع إدراك لون البشرة) وإن حكى حجمها كسروال ضيق لكنه مكروه للمرأة ، ومثلها الخنثى فيما يظهر، وخلاف الأولى للرجل» .
وهذا الذي نصَّ عليه الشافعية في أن صلاة بالبنطال مكروهة كراهة تنزيه للمرأة ، وخلاف الأولى للرجل = لم يتفردوا به ، بل نصَّ على نحوِه غيرُهم من المذاهب الأربعة .
ومن نصوص السادة الحنفية قولُ العلامة الحصكفيِّ الحنفيِّ رحمه الله في «الدر المختار مع حاشية ابن عابدين» (ج1/ص410) : «ولا يضر التصاقُه وتشكله» .
قال العلامة ابن عابدين رحمه الله : «قوله : (ولا يضر التصاقُه) أي : بالألية مثلًا» .
ومن نصوص السادة المالكية قول الإمام القرافي رحمه الله في «الذخيرة» (ج2/ص108) : «فإنْ كانَ شفَّافًا فهو كالعدم مع الانفراد ، وإن كان يصف ولا يشف كُرِهَ وصحَّت الصلاة» .
وقول العلامة الباجيّ رحمه الله في «المنتقى شرح الموطأ» (1/335) : «ويُكرَهُ الرَّقيق الصفيق من الثياب ؛ لأنه يلصق بالجسد ، فيبدو حجمُ ما تحته ، وفيه بعض الوصف لما تحته» .
ومن نصوص السادة الحنابلة في ذلك قول العلامة البهوتي رحمه الله في «كشاف القناع» (ج1ص264) : «( فإن ) ستر اللون و ( وصف الحجم ) أي حجم الأعضاء ( فلا بأس ) لأن البشرة مستورة ، وهذا لا يمكن التحرز منه » .
المسألة الثانية : حكم بروز المرأة بالبنطلون أمام الأجانب .
نصَّ بعض محققي السادة الشافعية على تحريم بروز المرأة بما يحجم أعضاءها .
ومن ذلك قول العلامة ابن الملقن رحمه الله في «التوضيح شرح الصحيح» (ج9/ص51) - [في شرح حديث : «ربَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة] - : «وقوله: (كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ) يريد: كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن، ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن، وهن عاريات في الحقيقة، فربما عوقبت في الآخرة بالتعري الذي كانت إليه مائلة في الدنيا مباهية بحسنها، فعرف - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة تعصم من شر ذلك، وقد فسر مالك أنهن لابسات رقيق الثياب، وقد يحتمل -كما قَالَ ابن بطال- أن يريد - صلى الله عليه وسلم - بذلك النهي عن لبس رقيق الثياب واصفًا كان أو غير واصف خشية الفتنة » .
فقوله رحمه الله : «الواصفة لأجسامهن» أي : المحددة لحجم الأعضاء لا الشافة ؛ لأنه قابله بقول مالك رضي الله عنه في التفسير بأنها الرقيقة ، أي : التي تشفُّ عما تحتها ، ثم حكى عن ابن بطال أنه لا مانع من شموله للمعنيين ؛ الشاف لما تحته لرقته ، والواصف لما تحته لضيقه .
وكذا نصَّ غيرُهم على ذلك .
قال العلامة أبو العباس القرطبي في «المفهم» (ج5/ص449) [في شرح حديث : (صنفان ...] : «وقوله : (( ونساء كاسيات عاريات )) ؛ قيل في هذا قولان : أحدهما : أنهن كاسيات بلباس الأثواب الرقاق الرفيعة التي لا تستر منهن " حجم عورة " ، أو تبدي من محاسنها - مع وجود الأثواب الساترة عليها - ما لا يحل لها أن تبديه ، كما تفعل البغايا المشتهرات بالفسق . وثانيهما : أنهن كاسيات من الثياب ، عاريات من لباس التقوى ؛ الذي قال الله تعالى فيه : { ولباس التقوى ذلك خير }. قلت : ولا بُعدَ في إرادة القدر المشترك بين هذين النوعين ؛ إذ كل واحد منهما عُرُوٌّ ؛ إنما يختلفان بالإضافة» .
وهو قولٌ وجيهٌ جدًّا ؛ إذ لا مانع من حمل الحديث على من تلبس ما يشف عن لون بشرتها ، أو تلبس ما يبين حجم عورتها ، ومن كانت حالُها كذلك فهي كاسية من الثياب عارية من التقوى .
وقال العلامة الباجي رحمه الله : «المنتقى» (ج7/ص224) : «ويحتمل عندي - والله أعلم - أن يكون ذلك لمعنيين ؛ أحدهما الخفة فيشف عما تحته ، فيدرك البصر ما تحته من المحاسن ، ويحتمل أن يريد به الثوب الرقيق الصفيق الذي لا يستر الأعضاء ، بل يبدو "حجمها"» ، ثم قال : «قال مالك رحمه الله : بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى النساء أن يلبسن القباطي ، قال [أي : عمر رضي الله عنه] : (وإن كانت لا تشف فإنها تصف) ، قال مالك : (معنى تصف أي : تلصق بالجلد) ، وسأل مالك عن الوصائف يلبسن الأقبية فقال : (ما يعجبني ذلك ، وإذا شدتها عليها ظهر عجزها) ، ومعنى ذلك أنه لضيقه يصف أعضاءها عجزها وغيرها مما شرع ستره ، والله أعلم وأحكم) .
وقال القاضي عياض رحمه الله في «مطالع الأنوار على صحاح الآثار» (ج6/ص68) [في شرح أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نهيه عن القباطي وقوله في وصفها : «فإنه إلا يشف فإنه يصف] : «قوله: (إلا يشف فإنه يصف يَشِفَّ فَإِنَّهُ يَصِفُ) بفتح الياء وشد الفاء وكسر الشين ، ومعناه: إن لم يُبْدِ ما وراءه من الجسم ويظهره لصفاقته مع رقته فإنه يصف ما وراءه للصوقه به حتي يبدو حجم الجسم وتتبين الأعضاء ، والشف: الثوب الرقيق المهلهل النسج الذي يبدو معه لون ما وراءه، وكذلك (كل جسم يظهر من أمامه ما وراءه) فهو شفاف كالزجاج وغيره» .
ونحوُه قول العلامة ابن الحاجب رحمه الله في مختصره المشهور «جامع الأمهات» (ص563) : «ويحرم على النساءِ لباسُ ما يصفُ أو يشفُّ» .
كذلك نصَّ السادة الحنفية على حرمة النظر إلى المتشكل ، أي : الملتصق بالبدن ، وقضية النظر لها تعلقٌ بنائي من وجه ما بحكم الملبوس .
قال العلامة الكاساني رحمه الله : «وإن كان ثوبُها رقيقًا يصف ما تحته ويشف ، أو كان صفيقًا لكنه يلتزق ببدنها حتى يستبين له جسدها فلا يحلُّ له النظرُ ؛ لأنه إذا استبانَ جسدَهَا كانت كاسية صورة عارية حقيقة ، وقد قال النبي : (لعن الله الكاسيات العاريات)» .
وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله في «حاشيته» (ج1/ص410) : «هل يحرم النظر إلى ذلك المتشكل مطلقًا أو حيث وجدت الشهوة ؟ قلت : ... الذي يظهر من كلامهم هناك هو الأول» .
وهذه الأقوال وإن كانت من مالكية وغيرهم إلا أنها لا تخالف منصُوصًا لأصحابنا الشافعية ، بل توافقهم كما سبق إيرادُه نصًّا عن ابن الملقن رحمه الله ، وهو من أكابر أصحابنا .
وقد أنكر العلامة التاج السبكيُّ رحمه الله على أناسٍ يظنون أن المذهب ما في «الروضة» و«الشرح» فحسب ، ووقعت له في ذلك واقعة .
قال رحمه الله في «ترشيح التوشيح» (ق 84 / نسخة المكتبة الظاهرية) وهو يناقش معترضًا - : «أَعْجَبُ من اعتقادِه أنه ليس في الدنيا فقهٌ إلا ما في (الرافعي) و(الروضة)» .
وقال رحمه الله : «لما وليت الخطابة والإمامة بجامع بني أمية : صرت أصلي ليلة الجمعة في صلاة العشاء بالجمعة والمنافقين ؛ للحديث الوارد في صحيح ابن حبان ، بلغني أن متكلمًا تكلم في ذلك لكونه ليس في الرافعي، فعرفتُ المبلغ أن في ذلك حديثًا صحيحًا ، وأن صاحب «المهذب» ذكر الحديث في كتابه، وأن شيخ الإسلام أبا عثمان الصابوني من أئمة أصحابنا كان لا يترك ذلك سفرًا ولا حضرًا ، فالمسألة فيها سنة، وهي أوضح من أن تنكر، وكم من واضحةٍ ليست في الرافعي قُدِّرَ تركُها ؛ إما لوضوحها أو لغير ذلك» .
فقال رحمه الله : «وإذا ظَنَّ مجهولٌ أنَّ الفقه مقصورٌ على ما يعهده ويألفه فليس بمأمون أنْ يُنْكِرَ الحكم في وقائع منصوصةٍ للشَّافعيِّ والأصحاب لكونه لم يدرها، وما مَثَلُ مَنْ في حسبانه الحبس أنَّه ليس في الدُّنيا شيءٌ إلا في الرافعيِّ إلا مَثَلُ نملة ظنَّت أنَّه ليس في العالم سماء إلا سقف بيتها، ولا أرض إلا عرصة دارها، ولو خَالَطَ هذا أهلَ العلم حقيقة، ومارس الكتب لما سرى إليه شيء من هذا الحُسْبَان» .
وفتاوى أصحابنا فيما ما لا يحصى من الاستدلال بكلام المالكية وغيرهم إذا لم يكن مخالفًا لمنصوصٍ أو مقتضى عندنا .
ولا يشكلُ على هذا أن النوويَّ رحمه الله لما فسَّر حديث الكاسيات العاريات فسره بأنهن يلبسنَ ما يبدي لون بشرتهن ؛ فإن هذا ليس من قبيل المخالفة الحكمية ، وإنما هو من قبيل التحرير الدلالي ؛ فالنووي مخالف في الدلالة لا في الحكم .
كذا لا يشكل على هذا قول ابن حجر الهيتمي رحمه الله في «المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية» : «(وشرط الساتر) في الصلاة وخارجها أن يشمل المستور لبسًا ونحوه مع ستر اللون فيكفي (ما يمنع) إدراك (لون البشرة ولو) حكى الحجم كسروال ضيق ؛ لكنه للمرأة مكروه وخلاف الأولى للرجل».
فقول ابن حجر الهيتميِّ : «وخارجها» لا يريدُ به أمام الأجانب ، وتفسيرها بذلك غلطٌ على الأصحاب ، وإنما يريدُ بها : «في الخلوة» ؛ إذ أصحابنا يوجبون الستر في الخلوة أدبًا مع الله سبحانه (والواجب على المرأة في خلوتها ستر ما بين السرة والركبة) .
ويدلُّك على ذلك أن العلامة الترمسي صاحب الحاشية النفسية قال في هذا الموضع في «حاشيته» (ج3/ص220) : (قوله : (في الصلاة وخارجها) أي : : ولو في الخلوة) .
وقوله هذا بيان لمراد الهيتمي بخارج الصلاة ، وليس بيانًا للماصدق البعيد تنبيهًا عليه .
كذلك يدلك على أن المراد بالخارج الخلوة قول العلامة الكردي في حاشيته النفسية المسماة بـ «المواهب المدنية» (ج1/ق193/نسخة سعود) [عند قول الهيتمي : (ولا يجب الستر من أسفل)] : «قوله : (من أسفل) سواءٌ كان خارج الصلاة أم فيها ، فلو رؤيت عورته منه كأن صلى بمكان عالٍ لم يؤثر».
ولا يفهم أحدٌ من هذا النصِّ أن خارج الصلاة بأن يجوز له الصلاة على هذا الحال مع علمه بأنه بمحضر أجانب لا يتحرزون عن النظر إلى عورته .
ولبيعذرني القارئ على هذا الاستطراد في حل الإشكال ؛ فإنه لا بد .
والخلاصة أن نصوص أصحابنا دالة على تحريم بروز المرأة بثياب محجمة لأعضائها .
ولكن يبرز سؤال : ما ضابط تحجيم العورة المحرم ؟ وهل كلُّ تحجيم محرم ؟
===
المسألة الثالثة : ضابط التحجيم المحرم .
وقع في نصوص جماعة من الفقهاء في كلامهم عن بعض صور التحجيم للعورة قولهم : «وهذا [أي : هذه الصورة] مما لا يمكن الاحتراز عنه» .
وهذا يدلُّك على أنه ليس كلُّ تحجيم محرمًا .
فنقول : التحجيم ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ :
القسم الأول : تحجيمٌ لا يمكن الاحتراز عنه ، وهذا معفوٌّ عنه ، ولا يتصور أن يرد فيه خلافٌ من حيثية التحريم ، نحو تحجيم الحذاء للقدم ، وتحجيم الخمار للرأس ، ونحو ذلك .
القسم الثاني : تحجيمٌ يشقُّ الاحتراز عنه ، وهذا معفوٌّ عنه كذلك ؛ لمشقة الاحتراز عنه ، وهو منقسم إلى نوعين :
النوع الأول : تحجيمٌ أصلي : وهو ما تعلق بطبيعة الثياب ، كتحجيم الجلباب الفضفاض للكتف وأعلى الظهر ونحوهما ، والتحجيم الناتج عن القعود أو الركوع أو السجود بحضرة الأجانب ، ونحو ذلك .
النوع الثاني : تحجيمٌ طارئ : وهو ما كان تعلقه بأمرٍ خارجي ، كتحجيم الثوب الملتصِق بالمرأة بسبب الريح ، فهذا معفوٌّ عنه ، لكن تجافيه المرأة بقدر استطاعتها .
فهذا القسمُ بنوعيه من قبيل المعفو عنه .
القسم الثالث : تحجيم لا يشقُّ الاحترازُ عنه ، وهذا هو المُحَرَّم ، لأنه يضيع مقصود الشارع من الستر ، وهو درء الفتنة ، وذلك نحو تحجيم الثوب الضيق لعورة المرأة ، فهذا تحجيم لا يشق الاحتراز عنه ، ومن ثم فهو محرمٌ ؛ لما سبق إيراده من النصوص (حديث « صنفان ..» وغيره) .
المسألة الرابعة : تحقيق المناط في أمر البنطلون .
يجري على ألسنة بعض المفتين قولهم : «إن الشارع لم يحدد زيًّا معينًا للمرأة ، بل حدد أوصافًا ، فإذا توافرت جاز ، فإذا كان البنطلون فضفاضًا جاز ، وإلا فلا» .
وهذا الكلام أوله حقٌّ ، ولكن يرد عليه إشكال متعلق بتحقيق المناط .
وذلك أنه لا يتصور أن يكون البنطال فضفاضًا ابتداءً في أعلاه ، فإنه ولا بد محجم للأليتين ، كذلك لا يتصور أن يكون البنطال فضفاضًا في وسطه ، فإنه ولا بد محجم للفخذين دوامًا ، فلا بد أن يحجما حال المشي ، أو حال القعود ، وهذا تحجيم لا يشق الاحتراز عنه .
فالحاصل أن لبس المرأة للبنطلون له صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون فوق البنطال ثوبٌ فضفاضٌ يمنع من رؤية أعضاء المرأة مُحَجَّمَة ، ينزل إلى نهاية الفخذين أو الركبة ، وفي هذه الحالة فهو جائزٌ ؛ لأن الثوب الفضفاض فوقه منع من تحجيم الأليتين والفخذين ونحو ذلك (مع كونه خلاف الأولى أيضًا) .
الصورة الثانية : ألا يكون فوقه ثوبٌ فضفاض يستر إلى نهاية الفخذين أو الركبة ، أو يكون فوقه ثوبٌ لكنه ينزل إلى مبدأ الفخذين فقط ، ومن ثم فالفخذان محجمان = فهذا يحرم .
والخلاصة ؛ أن شرط جواز لبس البنطلون للمرأة : أن يكون فوقه ثوبٌ فضفاضٌ ينزل إلى الركبة ، فيمنع من ظهور أعضاء المرأة مُحَجَّمَة .
وهذا طبعًا مع كون البنطال نفسه فضفاضًا .
هذا ما كان .. فإن كان حقًّا فمن الله ، وإن كان باطلًا فمني ومني الشيطان ، والله وروسوله منه براء .

والسلام .

الجمعة، 17 مارس 2017

حكم الاحتفالِ بعيد الأمِّ تخريجًا على مذهب الشافعيّة

الحمد لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله، أما بعدُ؛
فقد سئلت على «الآسك» هذه الأيام عن حكم الاحتفالِ بعيدِ الأمِّ سؤالًا مجملًا، فشرعتُ في كتابة تفصيل ما أجملَه السؤال في جوابٍ، ثم الإجابة عن حجج المانعين مطلقًا، فطالَ الجوابُ جدًّا، فآثرت نشرَ الجوابِ على «الفيس»، وإليه تكونُ الإحالة.
وقد قسمتُ جوابي عن حكم الاحتفالِ إلى تمهيدٍ، وثلاثة فصولٍ، وخلاصة يقرؤها من شاءَ من عامة المسلمين أن لا يدخل في تفاصيل التحرير الفقهي .
أما التمهيدُ ففيه بيان لطريقة الفقهاءِ في المسألة ونظائرها .
وأما الفصول فثلاثة:
الفصل الأول: تفصيلٌ في الحكم يرفع إجمالَ السؤال.
الفصل الثاني: الجوابُ عن حجج الفريق المخالف، وفيه مباحث:
المبحث الأول: مناقشة استدلالهم بأنَّ التشبه بالكفار محرَّمٌ.
المبحث الثاني: مناقشة استدلالهم بحديث: «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم».
المبحث الثالث: مناقشة استدلالهم بحديث: «قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما: يوم الفطر والأضحى» .
ثمَّ خلاصة .
===
أما التمهيدُ؛ فإنَّ الفقهاءَ من أصحابنا الشافعية وغيرهم مطبقون على أن مخالفة المسلم للكافر في غالبِ شئونِه مطلوبٌ شرعيٌّ، ولكن تختلف درجات هذا المطلوب فقد يكونُ واجبًا متحتمًا، وقد يكون مندوبًا، ومن ثمَّ فلا يحكمُ الفقهاءُ على مشابهة المسلم للكافرِ في كلِّ أمرٍ بحكم واحد، بل تارة يحكمون بأن المشابهة محرمة، وتارة يحكمون بأنَّ المشابهة مكروهة، وتارة يحكمون بأنها المشابهة خلاف الأولى، وذلك لدقة نظرهم في المدارك.
وأما التفصيلُ فهاك تحقيق المقام:
غالبًا يأتي السؤال بصيغة: «ما حكمُ الاحتفالِ بعيدِ الأمِّ» .
والسؤال بهذه الصيغة فيه ثلاثُ مشكلات: تنازع الاسم والتكييف الفقهيِّ، والتجَوُّز في المصطلح، والإجمال؛ فإذا جرى المفتي على ظاهِرِ لفظ السائل دون تدقيقٍ سارعَ إلى التحريم، وليس من واجب المستفتي أن يدقق في لفظه الذي يسأل به؛ إذ يغلب على المستفتين عدم الانتباه لمثلِ ذلك، وإنما يقع هذا الواجب على عاتق المفتي؛ كيلا يضع الأمورَ في غيرِ موضعها.
أما عن تنازُع الاسم والتكييف الفقهي؛ فإنها من مضلات الفقهاءِ حقًّا ومن أسباب الزلل؛ فإنَّ اليوم الذي يخصص للأمِّ لا يسمى عيدًا في الميزان الشرعيِّ؛ إذ العيدُ في الميزان الشرعيِّ: يومٌ اتخذ على وجهِ التعبدِّ، سواءٌ أكانَ تعبدًّا حقًّا كأعيادِ الإسلام أو تعبدًا باطلًا كأعيادِ الكفر، أما اتخاذُ يومٍ لا على جهة التعبدِ أي: لا من جهة شرعٍ صحيح أو محرَّف فلا يسمَّى عيدًا، وإنما شيءٌ اعتاده الناس.
والمدارُ عند الفقهاءِ إنما هو على التكييف الفقهيِّ للفعل لا على اسمِه، فلا يجوزُ أن يسارعَ المفتي إلى تحريم القهوة مثلًا؛ لاسمها؛ إذ القهوة في لسان العرب هي الخمر، فكذلك هنا: لا يجوزُ أن يسارع المفتي لمحض تسمية اليوم بالعيدِ، إذ العبرة ليست بأسماءِ الأشياءِ، وإنما بالتكييف الفقهيِّ لها.
ومن ثمَّ فلا يلحق «يوم الأمِّ» بالأعيادِ الدينية؛ لمحض المشابهة في الاسم وتجوُّز العامة .
قال العلامة ابن حجر الهيتميُّ رحمه الله في «الفتاوى» (4/361) في سياقِ الردِّ على من حرَّم القهوة باسمها: «الأسَامِي لا تقتضي تشبيهًا»
وأما عن المشكلة الثانية المتعلقة بالسؤال بهذه الصيغة فهي التجَوُّز في المصطلح، فإنَّ السائل غالبًا يعبر بكلمة الاحتفال، وغاية ما يفعله المسلمُ في هذا اليوم إنما هو زيارة لأمِّه وإهداء لها، وهذا لا يسمى احتفالًا.
وأما عن المشكلة الثالثة: فهي الإجمالَ؛ فإنَّ الناس أحوالهم تختلف مع أمهاتهم، ومنهم من شابهوه الكفار من كلِّ وجهٍ في هذه المسألة، فيقطع أمَّه طوال السنة، ثم يصلها في هذا اليوم فحسب، فلا بد من التفصيلِ؛ كما قال أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: «إذا كانت المسأَلَةُ فيها تفصيل لم يطلق الجواب، فإنه خطأٌ».
وأما عن التفصيل:
فإنَّ صلة الأمِّ وزيارتها في هذا اليومِ والإهداء لها له صورتان:
الصورة الأولى : أن يكون الابن واصِلًا لأمِّه طوال السنة ولو على فترات متقطعة، فإذا وردَ عليه هذا اليومُ زارَ أمَّه تطييبًا لخاطرها، وأهدى لها شيئًا = فلا بأسَ بذلك.
وذلك لأنَّ فعله هذا دخل في نطاق عادتِه التي يفعل طوال السنة، وكونه قد خصَّص هذا اليومَ بالزيارة لا يرتب التحريم، نعم لا يرتبُّ التحريم من حيثُ موافقة اليهود والنصارى؛ إذ هذه موافقة في أمرٍ من أمورِ العادات، مع كونِه واصلًا طوالَ السنة، ولا يرتبُّ التحريم من حيث البدعيّة؛ إذ إنه لا يعتقدُ أفضليّة شرعية لهذا اليوم.
ولا فرقَ بين من خصَّص يوم الخميس من كلِّ أسبوعٍ أو السبت الأول من كلِّ شهرٍ: لزيارة أمِّه، وبين من خصَّص هذا اليوم، اللهم إلا كون اليوم من عادة اليهودِ والنصارى، وليست الموافقة هنا محرَّمة؛ لكون المسألة أي: التخصيص - في نطاق العادات لا العبادات.
الصورة الثانية : أن يكون قاطعًا طوال السنة ، أو شبه قاطع ، ثم يأتي إلى هذا اليوم فيصلها ويهدي لها.
فهذا الشخصُ آثمٌ من حيثُ إنه قاطعٌ، ثم هو على هذه الحال في قطيعة أمِّه ووصالها في يومٍ واحد = مشابهٌ لليهود والنصارى في ذلك الذين يقعطعون صلة أمهاتهم طوال السنة، ويصلونها في يوم واحدٍ، فيتوارد على فعله حكمان، التحريمُ من حيثُ كونُه قاطعا، والكراهة التنزيهية من حيث إنه مشابهة للنصارى في اتخاذ اليوم لذلك «مع القطيعة طوال السنة»، وهذا معهودٌ عند الفقهاءِ من أصحابنا وغيرهم، أي: أن يتواردَ على المحل حكمان.
وغالب المسلمين - ولله الحمد - يصلون أمهاتهم طوال السنة ، وكلُّ الذي يفعلونه في هذا اليوم زيارة أو إهداء ، فمثل هذا لا بأس به ، وذلك على جهة البر بها لا على جهة مشابهة الكافرين ، والله أعلم.
الفصل الثاني: مناقشة حجج المانعين:
المبحثّ الأول: مناقشة استدلالهم بأنَّ محرمٌ لكونِه تشبُّهًا بالكفار.
أما تحريمُ الاحتفال بعيدِ الأم (بالمعنى المذكور آنفًا) بعلِّة كونِه تشبهًا بالكفار = فقضيّة فقهيّة فاسدة منقوضة؛ إذ ليس كلُّ تشبُّهٍ بالكفارِ يكون محرمًا، والتعليلُ به علة منقوضة.
والناظرُ في صنيعِ الفقهاءِ يجدُ أن قد يحكمون على الفعل الحاصل فيه التشبه بأنه كفرٌ، وتارة يحكمون بأنه حرامٌ، وتارة يحكمون بأنه مكروه، وتارة يحكمون بأنه خلافُ الأولى؛ نظرًا للمدرك في كلِّ ذلك، ولا يلتزمون طردَ التحريم في كلِّ فعلٍ حصل فيه تشبُّه بالكفار.
(1) فالتشبُّه بالكفار قد يكون كفرًا، وذلك كما مثَّل أصحابنا الشافعيَّة بما لو شدَّ امرؤٌ الزنار على وسطه أو وضع قلنسوة المجوس على رأسه، فهذا يكفر إن فعله تعظيمًا لدينهم واعتقادًا لحقيقته [«الروضة» (10/69) ، «حاشية الشرواني على التحفة» (9/92) ، «فتاوى ابن حجر» (4/239)] .
(2) وقد يكون التشبُّه بالكفارِ محرمًا، كما نصَّ أصحابنا فيما إذا فعل شيئًا من الأشياء السابق ذكرها دون أنْ يقصد تعظيم دينهم، فهذا آثمٌ، ولكنه لا يكفر، وكذا مثَّلُوا بمُوافقة النصاري في أعيادهم الدينية والتشبه بهم، وكذا موافقة المجوس في الصلاة في الأوقات المكروهة (تحريمًا) .
(3) وقد يكون التشبه بالكفار مكروهًا، وهذا أكثر الذي تجري عليه أكثر فروع التشبه، ويمثل عليه من فروع الأصحاب بكراهة أصحابنا هيئة الاشتمال في الصلاة؛ مخالفة لليهود، وكراهة الاختصار للمصلي؛ مخالفة لليهود والنصاري .
(4) وقد يكون التشبُّه بالكفارِ خلافَ الأولى، ويمثل على ذلك باستحباب أصحابنا تأخيرَ السحور وتعجيلَ الفطر؛ لما في ذلك من مخالفة لليهود والنصاري كما قاله الهيتمي، وكما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بذلك، فترك ذلك خلاف الأولى .
(5) وقد يكون التشبه بالكفار مباحًا ، ويمثَّل علىه بنصِّ أصحابنا على إباحة لبس الطيلسان، رغم كونه من ثياب اليهود والنصارى، قال البجيرمي رحمه الله - : «الطيالسة الآن ليست من شعارهم، بل ارتفع في زماننا، وصار داخلًا في عموم المباح، وقد ذكره ابن عبد السلام في البدع المباحة» .
فإذا علَّل الفقيهُ الحكمَ بالتحريم بـ«كونِه تشهبُّهًا بالكفار» وردت عليه هذه الفروعُ، ولزمته، وليس بملتزمٍ طردَ التحريم فيها، ولا أحد من الفقهاءِ.
ولكن؛ سردُ هذه الفروعِ فحسب لا يقنَعُ به إلا بطَّالُو المُحَصِّلين، فلا بُدَّ من ضابطٍ يجمَعُ مُتفرِّقَهَا ويَلُمُّ شَعَثَها، فيحيط المتفقه علمًا بضابطِ الحكمِ بالتحريم، وضابطِ الحكم بالكراهة، وضابط الحكم بالإباحة، فتنضبط له مواضع الانتشارِ ويجمع له شتاتَ النظر.
أما عن ضابطِ الكفرِ والتحريم فهو: «أن يكون الفعلُ شعارًا لأهل الكفر ، ويظهر فيه وجه تعبدٍ» ، فيحكم بالكفر أو التحريم على حسب قصد الفاعل ، فإن فعل هذا الشعار تعظيمًا لدينهم واعتقادًا لحقيقته كفر ، وإن لم يعتقد ذلك أثم ولا يكفر ، قال ابن حجر الهيتمي في مسألة موافقتهم في عيدهم - : «فالحاصل أنه إن فعل ذلك بقصد التشبه بهم في شعار الكفر كفر قطعًا ، أو في شعار العيد مع قطع النظر عن الكفر لم يكفر، ولكنه يأثم، وإن لم يقصد التشبه بهم أصلًا ورأسًا فلا شيءَ عليه» .
فتأمَّل؛ كيف فرَّق الهيتميُّ رحمه الله بين صورٍ ثلاثة رغم ظهور وجه التعبُّد في المسألة، بين ما إذا فعله قاصدًا التشبه في شيءٍ من حيثُ إنه شعارُ كفرٍ، أو لا من حيثُ إنه شعارُ كفر، أو فعله مع ذهولِه عن كونِه شعارًا لهم أصلًا.
وذلك كما مثلنا بمسألة شد الزنار ، فإن لبسه تعظيمًا لدينهم واعتقادًا لحقيقته كفر ، وإلا أثم ولم يكفر .
أما ضابط الكراهة التنزيهة أو خلاف الأولى: فهو ورود أمرٍ من الشارع أو نهي في عين المسألة ، ولو كان ذلك فيما هو داخل في العادات ، فإن ورد نهي في عين المسألة حكم على المشابهة بأنها مكروهة كراهة تنزيه ، كما مثلنا باختصار المصلي واشتمال اليهود ، وإن ورد أمر بالمخالفة في عين المسألة دون ورود نهي حكم على المشابهة بأنها خلاف الأولى ، كما مثلنا بتأخير السحور وتعجيل الفطر .
وما سوى ذلك أمور العادات فداخل في نطاق المباح ، كما مثلنا بلبس الطيالسة .
وبذلك يتضحُّ أن تخصيص هذا اليومِ للأمِّ داخلٌ في نطاق المباحِ؛ إذ لا يظهرُ فيه وجهُ تعبُّد أصلًا؛ إذ ليس عيدًا دينيًّا، بل أمرٌ متعلق بالعادات.
المبحثُّ الثاني: مناقشة استدلالهم بحديث: «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم» .
أما عن استدلالهم بحديث: «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم» فنناقشهُ من وجهين: وجهٍ دلالي، ووجهٍ ثبوتي.
أما الوجهُ الدلاليُّ: فإنَّ الفقهاءَ رغم استدلالهم بهذا الحديث في المُدَوَّنات الفقهية؛ فإنهم لا يطردون بموجبه استصحاب التحريم، بل تارة بستدلُّون به، ويحكمون بالكراهة، وتارة يستدلُّون به ويحكمون بالتحريم.
وليس هناكَ طاردلعموم الحديث، أي: بأنَّ كل تشبُّه مؤدٍّ للحكم بالتحريم.
فالاستدلال بمحضِ هذا الحديث على التحريم غلطٌ مجانبٌ لطريقة الفقهاءِ، بل لا بد من ضميمةِ معنى زائدٍ.
فعلى سبيل المثالِ؛ السّادة الحنفية يذكرون هذا الحديث في كتاب الصلاة في مسألة كراهة أن يقوم الإمام وحده في المحراب؛ لِمَا فيه من تشبُّه بأهل الكتاب، وينصون على كراهة تغطية الفم وكراهة التمايل في الصلاة، ويعللون بالمخالفة لليهود؛ كما نصَّ عليه العلامة العينيُّ في «البناية» (2/451)، وينصون في مواضع أخرى على التحريم مستدلين بالحديث، كنصِّهم على تحريم القراءة من المصحف في الصلاة وبطلان الصلاة بها، وليس هذا من تناقضهم رحمهم الله، بل من دقة نظرهم في المدارك.
فليس النظرُ إلى هذا الحديث فحسب، وإنما النظرُ إليه مع ضميمة المدارك الأخرى التي قد ترتفع بالفعل فتجعله محرمًا، أو تنزل به إلى مرتبة الكراهة أو خلاف الأولى.
وكذلك نجد السادة الحنابلة يذكرون الحديث في مدوناتهم الفقهية، فيستدلون به تارة على الكراهة التنزيهيّة، وتارة على التحريم، فينصون على كراهة حلق القفا كراهة تنزيهية؛ لما فيه من التشبه بالمجوس، ويذيلون بالحديث، وينصون على كراهة شد الوسط بزنار في الصلاة كراهة تنزيهية؛ لما فيه من التشبه بأهل الكتاب، وينصون على كراهة التزيي بزي أهل الشرك كراهة تنزيهية؛ مستدلين بالحديث، ثمَّ نصوا على حرمة لبس زنارٍ كشعار لأهل الكفر؛ مستدلين بالحديث .
وكذلك أصحابنا الشافعية يذكرون الحديث في مدوناتنا الفقهية، ثم يفصلون بين ما إذا قصد التشبه بهم في أمرٍ فيه وجهُ تعبُّد من حيث إنه شعارُ كفرٍ تعظيمًا لدينهم = فيكفر، أو قصد التشبه في أمرٍ فيه وجه تعبُّد لا من حيث إنه شعارُ كفرٍ فيأثم، أو لم يقصده أصلًا ولا رأسًا فلا يكفر، ولا يأثم، كما سبق ذلك عن العلامة ابن حجر الهيتميِّ رحمه الله.
وكذلك السادة المالكيّة؛ فإنَّ أبا العباسَ القرطبيَّ أجرى هذا الحديث في كلِّ من حادَ عن سبيل الله؛ كأهل الفسق والدعارة والمجون، ونصَّ على أنهم لو اختصوا بلون ثيابٍ أو حالٍ فيها كره لنا مشابهتم فيها تنزيهًا، واستدلَّ بهذا الحديث؛ كما صرَّح به في «المفهم».
الحاصل أن الاستدلال بمحض هذا الحديث على تحريم التشبُّه فيه نظرٌ، بل لا يستدلُّ به الفقهاءُ على التحريم إلا مع ضميمة معنى زائدٍ، نحو كون المتشبه فيه شعارَ كفر أو أو فيه وجهُ تعبُّد، أما أمرٌ متعلق بالعادات فلا يستدلُّون به على التحريم.
وأما عن الوجهِ الثبوتي فإنَّ هذا الحديث ضعيفٌ لا يثبت، على خلافٍ فيه.
ولسنا نقولُ ذلك لنطرح دلالتَه، فليست هذه طريقة أصحابنا، ولا طريقة أكابر الفقهاءِ، وإنما لتحقيق المسألة من الناحية الحديثية، ومن جهة إلزام الخصمِ إذا كان يلتزم طرح الحديث إذا ضعف إسناده، وهو مهيعٌ مسلوكٌ في علم الجدل.
وهاك تحقيق المقام:
فقد وردَ هذا الحديث من ثمانية طرقٍ، روي من حديث ابن عمرَ، وطاووس، وحذيفة بن اليمان (جاءَ عنه من ثلاث طرق)، وأنس بن مالكٍ، وأبي أمامة الباهليِّ.
أما حديث ابن عمر رضي الله عنه:
فقد أخرجه أحمدُ في «مسندِه» (9/123) وعبد بن حميد في «مسندِه» (ص267) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/212) وأبو داود في «سننه» (4/78) وأبو يعلى في «مسندِه» [كما في «إتحاف الخيرة المهرة» (4/484)] والدينوريُّ في «المجالسة وجواهر العلم» (1/460) وابن الأعرابيِّ في «معجمِه» (2/576) والطبراني في «الكبير» (13/317) و«مسند الشاميين» (1/135) وتمام الرازيُّ في «فوائدِه» (1/308) والبيهقيُّ في «شعب الإيمان» (2/417) والخطيب البغداديُّ في «الفقيه والمتفقه» (2/142) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (67/257) من طريقِ: أبي النضر هاشم بن القاسم ومحمد بن يزيد الواسطي وسليمان بن داود الطيالسي وغسان بن الربيع الأزدي ومحمد بن يوسف الفريابي وعلي بن عياش الحمصي، سِتَّتهم عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان قال: حدَّثَنِي حسان بن عطية عن أبي المنيب الجُرْشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «بُعِثت بين يدي السَّاعة مع السيف، وجُعِل رِزقي في ظلِّ رُمحي، وجعل الذل والصغار على من خالَفَ أمري، ومَنْ تشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم».
ورواه البخاريُّ (4/40) مُعَلَّقًا مختصرًا بصيغة التمريض في «باب ما قيل في الرماح»، فقال: «ويُذكَرُ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: جعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري» .
وإسنادُه ضعيفٌ؛ فقد صدَّره البخاريُّ رحمه الله بصيغة التمريض، وهي قولُه: «ويذكر»، وقد نصَّ الحافظُ ابن حجر رحمه الله في غير موضعٍ على أنها صيغة تمريض عنده، يأتي بها لضعف الحديث عنده أو لروايته الحديث بالمعنى أو اختصارِه، وقال في «تغليق التعليق» (3/446) عقب وصلِه: «وأبو مُنيب لا يُعرَفُ اسمُه، وقد وثقه العجليُّ وغيرُه، وعبد الرحمن بن ثابت مختلَفٌ في الاحتجاج به».
وكذا ضعفه الزيلعيُّ في «نصب الراية» (4/347)، والمنذريُّ في «مختصر أبي داود» (3/24)، وأعلَّاه بعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان.
أما الحافظ ابن حجر رحمه الله فحسَّنه في «الفتح» (10/271) في موضعٍ آخر، وكذا جَوَّد إسنادَه ابن تيمية رحمه الله كما في «الاقتضاء» (ص269).
أما الذهبيُّ رحمه الله في «السير» (15/509) فقال: «إسنادُه صالحٌ»، والذهبيُّ يطلق هذه العبارة في الإسناد اللين الذي وردَ له طريقٌ أخرى أو أكثر تعضده، فقد قال في بيان مراتب أحاديث «سنن أبي داود» في «السير» (13/214) : «فكتابُ أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب، ثم يليه ما أخرجه أحدُ الشيخين، ورغب عنه الآخر، ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسنادُه جيدًا، سالمًا من علة وشذوذ، ثم يليه ما كان إسنادُه صالحًا، وقبله العلماء لمجيئه من وجهين ليِّنين فصاعدًا، يُعَضِّد كلُّ إسنادٍ منهما الآخر، ثم يليه ما ضعف إسنادُه لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يُمشِّيه أبو داود، ويسكت عنه غالبًا، ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه، بل يوهنه غالبًا، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته» .
وأما العراقيُّ رحمه الله في «تخريج الإحياء» (2/676): «رواه أبو داود من حديث ابن عمر بسندٍ صحيحٍ»، وكذا الألباني رحمه الله صححه في «الإرواء» (5/110).
وسببُ الخلافِ في تصحيح الحديث وضعفه علتان وقع فيهما الخلافُ بين النقادِ، الأولى : إعلال الحديث بأبي المنيب الجرشي، الثانية: إعلالُ الحديث بعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان.
وأما أبو المنيب الجرشيُّ فقد أعلَّ الحديثَ به محمد بن خفيف الشيرازي، فقال بعد رواية هذا الحديث في «شرف الفقراء على الأغنياء»: «حدَّثُونا عن العقيلي ثنا آدم بن موسى سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أبو المنيب ليس بشيءٍ» .
وقد ردَّ الحافظُ العراقيُّ هذا الانتقادَ، ووهَّم الشيرازي فيه، فقال في «ذيل الميزان» (ص129): «وهذا وهمٌ من محمد بن خصيف، في ظنه أنَّ راوي هذا الحديث هو الذي تكلم فيه البخاري، والذي تكلم فيه البخاري هو عبيد الله بن عبد الله العتكي المروزي؛ كما ذكره العقيلي في (الضعفاء)، وأورده الذهبي في (الميزان) بعدهما في الأسماء فيمن اسمه عبيد الله، وأما أبو المنيب الجُرشي فلا يعرف اسمه كما قال أبو أحمد الحاكم في (الكنى)، وذاك مروزي، وهذا شامي ذكره العجلي في الثقات فقال: (شامي تابعي ثقة)، وذكره ابن حبان في الثقات».
فأبو المنيب هنا ليس المروزي، وإنما هو الشامي، الذي وثقه ابن حبان والعجليُّ، وقال ابن عبد البر (11/76): «ليس به بأس»، أما ابنُ أبي حاتمٍ فذكرَه في «الجرح والتعديل» (9/440)، ولم يذكر جرحًا ولا تعديلًا.
أما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الذي أعلَّ الحديثَ به الزيلعيُّ والمنذريُّ؛ فقد ضعَّفه جماعةٌ كثر من النقادِ.
ضعفه الإمام أحمد مع ثنائه على عبادَتِه، قال أحمد بن حنبل: «أحاديثُه مناكير»، وقال: «لم يكن بالقويِّ في الحديثِ»، وقال: «وكان عابد أهلِ الشام»، وقال ابن معين: «ضعيف»، وقال مرَّة: «لا شيءَ»، فقال له معاوية بن صالح: «يكتب حديثه»، قال: «نعم على ضعفه، وكان رجلًا صالحًا»، وقال النسائيُّ: «ضعيف»، وقال مرَّة: «ليس بالقويِّ»، وقال مرة: «ليس بثقة»، وقال ابن خراش: «في حديثه لينٌ»، وقال ابن عدي: «له أحاديثُ صالحةٌ، وكان رجلًا صالحًا، ويُكتَبُ حديثُه على ضعفه».
أما عليُّ بن المدينيِّ فقال: «رجل صدق لا بأس به، وقد حمل عنه الناس»، وقالَ أبو داود: «كانَ فيه سلامة، وليس به بأس، وكان مجابَ الدعوة»، وقال ابن معين في رواية أخرى للدوري: «ليس به بأس»، وقال العجليُّ: «شاميٌّ لا بأسَ به».
ووثقه أبو حاتم فقال: «ثقة»، وقال في موضعٍ آخر: «يشُوبُه شيءٌ من القدر، وتغيَّر عقلُه في آخرِ حياتِه، وهو مستقيمُ الحديث»، وقال دحيمٌ: «ثقة يرمى بالقدر»، وذكره ابن حبان في «الثقات».
والذي يتبدى والله أعلم: أنه شيخٌ وسطٌ، يكتبُ حديثُه، ولا يحتجُّ بما تفرَّد به، وهذا ما مالَ إليه الذهبيُّ رحمه الله، حيث قال في «السير» (7/314) في خاتمة ترجمتِه: «وقد تتبَّعَ الطبراني أحاديثه، فجاءت في كرَّاسٍ تام، ولم يكن بالمُكثر، ولا هُو بالحُجَّة، بل صالحُ الحديث»
الحاصل إذن: أن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان شيخٌ وسط، يعتبر به، ولا يحتج به إذا تفرَّد .
وقد جاءت رواية هنا تُوهم أن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان لم يتفرَّد بالحديث، بل توبع، تابعه الأوزاعي، فقد أخرج الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/213) قال: حدثنا أبو أمية حدثنا محمد بن وهب بن عطية عن الوليدِ بن مسلمٍ قال: حدثنا الأوزاعيُّ عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرْشيِّ عن عبد الله بن عمر به مرفوعًا .
وهي رواية باطلةٌ، لا تنفعُ عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان .
ذلك أنَّ الأوزاعيَّ قد اختلف عليه في هذا الحديث على ثلاثة أوجهٍ:
فرواهُ الوليدُ بن مسلمٍ عنه عن حسان بن عطيّة عن أبي المنيبٍ الجرشي عن ابن عمر به مرفوعًا .
وخالفه صدقة بن عبد الله السمين، فرواه عن الأوزاعيِّ عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سلمة عن أبي هريرة به مرفوعًا، وقد أخرجَ روايتَه الهروي في «ذم الكلام وأهله» (2/388) والبزار في «مسنده» (2/447) وأبو أمية الطرسوسي في «مسندِه» (ق201- نسخة خطية ضمن مجموع بالعمرية برقم 3837) وعبد الخالق الأطرابلسيُّ في «المعجم» (ص143) .
وخالفهما ثلاثة من ثقات أصحاب الأوزاعي، فرواه عيسى بن يونس وسفيان الثوريُّ وعبد الله بن المبارك ثلاثتُهم: عن الأوزاعيِّ عن سعيدٍ بن جبلة عن طاووس به مرسلًا، أخرج روايتي عيسى وسفيان ابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/216) (6/470)، ورواية عبد الله بن المبارك في «الجهاد» (ص89) له.
فهذه ثلاث أوجهٍ للخلافِ على الأوزاعي .
والصوابُ منها ما رواه الجماعة، أي: الوجه المرسلُ، وروايتا صدقة والوليد غلطٌ عليه، أما صدقة بن عبد الله السمين فضعيف، وأما الوليد بن مسلم فعلى ثقته وإمامتِه وتثبته في الأوزاعي فإنه يدلس تدليس التسوية، ولم يصرِّح بالتحديث إلا في طبقة شيخِه، فلا يبعدُ أن يكون أسقط الواسطة بين الأوزاعيِّ وشيخِه حسان بن عطية، فيكون المتابع حقيقة لعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان إنما هو تلك الواسطة المجهولة لا الأوزاعي، ولولا أنه ليس للأوزاعي رواية عن عبد الرحمن بن ثوبان وإن كان معاصرًا له = لقوي القولُ بأن الرواية قد رجعت إلى عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان .
وبهذا الإعلال لرواية صدقة قال دحيم رحمه الله كما حكاه عن أبو حاتم الرازي، ففي «علل ابن أبي حاتمٍ» (3/388) : «سألتُ أبي عن حديث رواه عمر بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل ، والصغار على من خالفني ، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
قال أبي: «قال لي دُحيم : هذا الحديث ليس بشيء، الحديث حديث الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم» .
وهذا إعلالٌ من دحيم للوجه الذي يرويه صدقة، وتصويب للوجه الذي يرويه الجماعة.
ونحوه البزار رحمه الله، فقال عقب رواية صدقة: «وهذا الحديثُ قد خُولِفَ صدقة في إسنادِه، فرواه غيرُه عن الأوزاعيِّ بغير هذا الإسناد مرسلًا، ولم يُتَابَع صدقة على روايَتِه هذه عن الأوزاعي بهذا الإسناد» .
أما الدارقطنيُّ في «العلل» (9/272) فقد قال: «يرويه الأوزاعي، واختلف عنه؛ فرواه صدقة بن عبد الله بن السمين - وهو ضعيف - عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وخالفه الوليد بن مسلم، رواه عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر، وهو الصحيح» .
ولا شكَّ أن قولَه: «وهو الصحيح» أي: وهو الصوابُ من الوجهين، ولا يقصد الصحة المصطلح عليها، وهو يتفق مع دحيم والبزار في إعلالِ رواية صدقة، لكنه يُصِّوب رواية الوليد بن مسلمٍ رغم عنعنته في طبقة شيخ شيخِه ومخالفتِه لثلاثة من ثقات أصحاب الأوزاعيِّ، وفيه نظرٌ.
أضف إلى ذلك؛ فإنَّ الرواي عن الوليد بن مسلم ليس بذاك، فإن محمد بن وهب بن عطية قد قال فيه ابن عديِّ: «له غير حديث منكر»، وقد خولف عن الوليد بن مسلم، خالفه هشام بن عمار وكثير بن عبيد وعمرو بن عثمان، فقد روى ابن حذلم في «حديث الأوزاعي» (ص14) قال: حدثنا أحمد بن المعلى بن يزيد ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، وعمرو بن عثمان ، وكثير بن عبيد ، قالوا : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي المنيب الجرشي ، عن عمر به مرفوعًا.
كذا قال: «عن عمر»، ويحتمل كونُه سقطًا، سواءٌ أكان سقطًا او هكذا رووه، فتعصيب الجناية بتسوية الوليد بن مسلم أولى .
والصوابُ من هذه الأوجه الثلاثة ما اتفق عليه الجماعة (عيسى بن يونس والثوريُّ وابن المبارك) عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاووس مرسلًا.
وإذا كان ذلك كذلك فلا تكون هذه المتابعة نافعة لعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان؛ لأنها غلطٌ على الأوزاعيِّ.
ولكن هل يكونُ الوجه المُصَوَّب مُقَويًّا لرواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ؟
لا يكون كذلك، يمنع منه أن هذا المرسل لا يصحُّ إلى طاووس أصلًا، ذلك أنَّ الراوي عن طاووس هو سعيد بن جبلة، وقد غمزه محمد بن خفيف الشيرازيِّ، فقال: «ليس هو عندهم بذاكَ».
فهذان طريقان قد تبدى لك ضعفهما، طريقُ عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان المسندة، وطريق طاووس المرسلة.
وللحديثِ طريقٌ ثالثةٌ من حديث أنس رضي الله عنها: رواها أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/165) قال: حدَّثَنا أبو بكر محمد بن جعفر بن يوسف ثنا أبو العباس أحمد بن محمود بن صبيح ثنا الحجاج بن يوسف بن قتيبة ثنا بشر بن الحسين الأصبهاني ثنا الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالفني، ومن تشبه لقوم فهو منهم».
وهي تالفة، بشر بن الحسين الأصبهاني صاحب الزبير بن عديِّ متهم، قال البخاري فيه: «فيه نظر»، وقال الدارقطنيُّ: «متروك»، وقال ابن عدي: «عامة حديثِه ليس بمحفوظ»، وقال أبو حاتم: «يكذب على الزبير».
وللحديث طريقٌ رابعة، من حديثِ حذيفة بن اليمان، أخرجها البزار في «مسندِه» (8/179) والطبراني في «الأوسط» (8/179) فقال: حدثنا موسى بن زكريا ثنا محمد بن مرزوق نا عبد العزيز بن الخطاب ثنا علي بن غراب عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم».
وقد أشارَ البزارُ إلى إعلالِه بالوقف، فقال رحمه الله: «لا نعلمه مُسندًا عن حذيفة إلا من هذا الوجه، وقد وقَفَهُ بعضُهم على حذيفة».
وإسنادُها تالفٌ؛ موسى بن زكريا هو التستريِّ؛ وهو متروكٌ؛ كما حكاهُ الحاكمُ عن الدارقطنيِّ، وقد جاءت رواية موقوفة صحيحة عن أبي عبيدة بن أبي حذيفة عن أبيه، تشير إلى إعلالِ هذه الرواية كما قال البزار .
فقد أخرجَ المروزيُّ في «الورع» (ص189) قال: قُرئ على أبي عبد الله وأنا أسمَعُ عن يحيى بن سعيد عن أبي عبيدة قال: دُعِي حُذيفة إلى شيءٍ، قالَ: فرَأى شيئًا من زِيِّ الأعاجِم، قال: فخرج، وقال: من تشبَّه بقومٍ فهو منهم .
وللحديث طريقٌ خامسة، أخرجها سعيدُ بن منصور في «سننه» (2/177) قال: نا إسماعيل بن عياش عن أبي عمير الصوري عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني بسيفي بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالفني، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
وهو ضعيفٌ لإرسالِه، وأبو عمير الصوريُّ اسمه أبان بن سليمان، ترجمَه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/300)، وقال: «أبان بن سليمان، أبو عمير الصوري، وكان من عباد الله الصالحين، يتكلم بالحكمة» .
فهذه طرقٌ خمسة للحديث، كلُّها ضعيفٌ أو تالفٌ، وقد ذكرها من خرَّج الحديث من العلماء الأكابر؛ وأحسنُ من استفاض في تخريجه الزيلعيُّ في «تخريج الكشاف» (4/229)، والألباني في «الإرواء» (5/109) .
ثمَّ منَّ الله بالوقوف على طرقٍ أخرى، لم يذكرها من خرَّج الحديث من السابقين عليهم رحمة الله ورضوانه.
فثمَّ طريقٌ سادسة، رواها الديلميُّ في «مسندِه» [كما في «الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس» (ق190-ب،ق191-أ/نسخة دار الكتب المصرية) لابن حجر] قال:أخبرنا عبدوس إذنًا، وحدثني عنه أبي أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الزنجاني إجازة، أخبرنا أبو سعد عبد الرحمن بن محمد السمرقندي، حدثني أبو نصر محمد بن عبد الرحمن الشافعي بسمرقند، حدثنا أبو موسى عيسى بن عبدك، حدثنا أحمد بن نصر ، حدثنا أبو مقاتل، عن أبي سهل عن الحسن عن حذيفة رفعَهُ : «لا يشبه الزيُّ الزيَّ حتى يشبه الخلق الخلق، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
وإسنادُها تالفٌ؛ فعيسى بن عبدك هذا هو الفرزاميثني، ونسبته إلى محلة من حائط سمرقند، قال السمعاني في «الأنساب» (4/364): «يروي عن أحمد بن نصر العتكي نسخة كبيرة عن أبي مقاتل السمرقندي عن أبي سهل كثير بن زياد البرساني البصري، روى عنه أبو نصر محمد بن عبد الرحمن الشافعي ومحمد بن علي الصفار وعلي القاسم الخطابي المروزي».
وأبو مقاتل السمرقندي هو حفص بن سلم، وقد كذبه ابن مهديّ ووكيع وغيرهما، وقال ابن حبان رحمه الله: «كانَ صاحبَ تقشُّفٍ وعبادةٍ، ولكنه يأتي بالأشياء المُنكرة التي يعلم من كتب الحديث أنه ليس لها أصل».
وللحديث طريقٌ سابعة، أخرجها الحسين بن إدريس الأنصاريُّ في «حديث أبي ذوالة» (ق80/ نسخة خطية بالعمرية رقم 3856) قال: حدثنا أبو ذوالة حدثني أبي عبد العزيز بن مروان عن جده أبان بن سليمان بن مالك الليثي عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم، ومن أحبَّ قومًا حُشِر معهم».
وهو إسنادٌ ضعيف؛ أبو ذوالة الضرير هو أصبغ بن عبد العزيز بن مروان مجهول كما قاله أبو حاتم، كما حكاه عنه ابنه في «الجرح والتعديل» (2/321)، وكذا تابعه الذهبي في «الميزان» (1/270)، وأبان بن سليمان بن مالك الليثي لم أرَ من ترجمَه.
وثمَّ طريقٌ ثامنة للحديثِ من حديث حذيفة بن اليمان أيضًا، رواها الطبراني في «مسند الشاميين» (3/94) قال: حدثنا عمرو بن إسحاق ثنا أبي ثنا عمرو بن الحارث ثنا عبد الله بن سالم عن الزبيدي ثنا نمير بن أوس أنَّ حذيفة بن اليمان كان يرده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فإنه منهم».
وفيها عللٌ؛ إسحاق بن إبراهيم بن العلاء شيخٌ «حمصيٌّ» مختلفٌ فيه، وثقه أبو حاتمٍ، وأثنى عليه ابن معين خيرًا، وكذبه محمد بن عوف الطائي، وقال النسائيُّ فيه: «ليس بثقة»، وقال أبو داود: «ليس بشيءٍ»، وعمرو بن الحارث قال فيه الذهبيُّ: «تفرَّدَ بالرواية عنه إسحاق بن إبراهيم زبريق، ومولاة له اسمها علوة، فهو غير معروف العدالة، وابن زبريق ضعيف»، أما ابن حبان فوثقه على قاعدتِه، وشيخُ الطبراني عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي الحمصي لم أرَ مَنْ ترجمَه.
فهذه طرقٌ ثمانية للحديث، لا ترقي به إلى مرتبة الصحة ولا التحسين، وليس فيها ما يرفع إليه النظر إلا طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، ولا تقوم الحجة بها، ولذا صدَّر الإمام البخاريُّ رحمه الله هذا الحديث بصيغة التمريض، وأحسنَ المنذريُّ والزيلعيُّ في تضعيفه.
وللحديثِ شاهدٌ موقوفٌ، رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (11/453) عن معمر عن قتادة أنَّ عمر بن الخطاب رأى رجلًا قد حلقَ قفَاهُ، ولبس حريرًا، فقال: «من تشبَّهَ بقومٍ فهو منهم» .
وبين قتادة وعمر بن الخطاب مفاوز.
المبحث الثالث: مناقشة استدلالهم بحديث: «قد أبدكم الله خيرًا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى» .
يستدلُّ المحرمون لاتخاذ يومٍ للأمِّ ونحوه بأنه فيه اتخاذَ عيدٍ جديد، وهو منهيٌّ عنه: بما أخرجه النسائي في «سننه» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما: يوم الفطر والأضحى» .
ولا دلالة في هذا على تحريم عيد الأم (تجوُّزًا)؛ إذ إن الاتخاذ المنهيَّ عنه في هذا الحديث إنما هو اتخاذ يومٍ على وجه المشابهة مع المشركين في أمر تعبُّدي، وهو ما يدلُّ عليه نصوصُ شراح الحديث، فقد نصوا على أن اليومين اللذين كان العربُ يتخذونهما في الجاهلية: النيروز والمهرجان، وهما عيدان دينيان.
فقد قال العلامة المناوي في «فيض القدير» : «(قدمت المدينة ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية) هما يوم النيروز والمهرجان» .
ومن ثمَّ فلا دلالة لهم في الحديث.
أما العيدُ وإطلاقه على كل ما عاد فهذا معنى لغوي محض.
أما المعنى الشرعي يومٌ فرحٍ لأهل ملة معينة .
فالحافظ ابن حجر رحمه الله لما فسَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل قومٍ عيدًا) وأبان عن الحكمة، قال: (يوم عيد أي: يوم سرور شرعي) .
والبدر العينيُّ رحمه الله لما فسَّره بمعنى ما اعتاده أهل ملة معينة من السرور، فقال: («إِن لكل قوم عيدًا»أ َي: أن لكل طائفة من الملل المختلفة عيدًا يسمونه باسم مثل النيروز والمهرجان، وإن هذا اليوم يوم عيدنا) .
أما عيدا النيروز والمهرجان فهما عيدان دينيان للمجوس بلا شك ، وهما اليومان اللذان كان أهل المدينة من العرب يقلدون المجوس فيهما باللعب والفرح .
فالنيروز أعظم أعياد المجوس، بل هو عيدهم الأكبر، وأول من اتخذه جم شاد أحد ملوك الطبقة الثانية من الفرس، ذلك أن دين المجوسية كان قد فسد قبله، فلما ملك جدده وأظهره فسمى اليوم الذي ملك فيه نوروز أي اليوم الجديد.
وأما المهرجان فكذلك عيد مجوسي متعلق بالشمس، حيث يزعمون أنها ظهرت للعالم في هذا اليوم فسمى بها.
فالعيدان دينيان بلا شك .
وكان شائعًا في السلف كونُ هذين العيدين دينين.
فقد أخرج البيهقيُّ عن زياد بن السكن، قال: كان زبيد اليامي ومعه جماعة إذا كان يوم النيروزويوم المهرجان اعتكفوا في مساجدهم، ثم قالوا: «إن هؤلاء قد اعتكفوا على كفرهم، واعتكفنا على إيماننا فاغفر لنا» .
هذا مع خلافٍ بين السلف ومن بعدهم في صيام العيد الكفريّ، ولكن هذه قضية أخرى منفصلة .
الخلاصة إذن:
لا حرجَ من الاحتفال بيوم الأم، في الصورة الآتية: أن يكونَ الابنُ واصِلًا لأمِّه طوال السنة ولو على فترات متقطعة، فإذا وردَ عليه هذا اليومُ زارَ أمَّه تطييبًا لخاطرها، وأهدى لها شيئًا = فلا بأسَ بذلك.
وذلك لأنَّ فعله هذا دخل في نطاق عادتِه التي يفعل طوال السنة، وكونه قد خصَّص هذا اليومَ بالزيارة لا يرتب التحريم، نعم لا يرتبُّ التحريم من حيثُ موافقة اليهود والنصارى؛ إذ هذه موافقة في أمرٍ من أمورِ العادات، مع كونِه واصلًا طوالَ السنة، ولا يرتبُّ التحريم من حيث البدعيّة؛ إذ إنه لا يعتقدُ أفضليّة شرعية لهذا اليوم.
ولا فرقَ بين من خصَّص يوم الخميس من كلِّ أسبوعٍ أو السبت الأول من كلِّ شهرٍ: لزيارة أمِّه، وبين من خصَّص هذا اليوم، اللهم إلا كون اليوم من عادة اليهودِ والنصارى، وليست الموافقة هنا محرَّمة؛ لكون المسألة أي: التخصيص - في نطاق العادات لا العبادات.
وحاصلُ في ضابطِ المسألة ما يلي:
1- كلُّ يومٍ لا يظهر فيه وجه تعبُّد، فيخصصه الناسُ لشيءٍ معين = جائز، كيوم الأم ويوم العمال ونحو ذلك، ومثلُه ذكرى ميلاد الشخص أو ذكرى زواجه.
2- كل يومٍ ظهر فيه وجهُ تعبُّد كفري = فلا يجوز الاحتفال به، ولا المشاركة فيه، كعيد الميلاد والقيامة عند النصارى ونحوه .
3- قد ينتفي وجه التعبُّد في اليوم، ولكن يعتريه التحريمُ أو الكراهة من حيثية أخرى (غير حيثية الاتخاذ) .
- فيعتريه الحرمة مثلًا ، أو يعتريه الكراهة.
مثالُ ما يعتريه الحرمة: عيد الحبِّ، فالاحتفال به محرمٌ من حيث إنه تخليد لذكرى رجلٍ فاجر.
ومثال ما يعتريه الكراهة: اليوم الوطني، فغالبُ ما يكون فيه إذكاء النعرة الوطنية وإذابة الانتماء الديني، وهو ذريعة إلى المحرم، فأقلُّ ما يقال فيه الكراهة التنزيهية.
والله المستعان.